بقلم الحسن مرزوق
في قلب المغرب النابض، حيث تتداخل أصداء الماضي مع همسات الحاضر، تعيش رقية انقايري، هذه الفنانة التشكيلية العصامية التي تنسج من روحها وفرشاتها لوحات تعبر عن قصصها القديمة بأسلوب جديد يلامس روح العصر. ولدت تحت سماء تيفلت على بعد حوالي 55 كلم من الرباط، رباط الذكريات والتاريخ.
نحتت هذه الفنانة المغربية العصامية إسمها بحروف بارزة في مجال التشكيل عبر إعدادها بشكل دائم ومستمر لعدة لوحات فنية معتمدة ببلوغ هذه المكانة على ما راكمته من خبرات وتجارب طوال حوالي تسعين سنة من العطاء والممارسة الفنية.
بدأت مسارها الفني من مدينة تيفلت بمنطقة زمور المطلة على جبال الأطلس المتوسط والمعروفة بجبالها الشامخة والعالية وبطبيعتها الجذابة والخلابة. هذه المنطقة التي ترعرع وكبر فيها عدد كبير من الفنانين العصاميين الفطريين الذين راكموا تجارب مهمة في التعابير التشكيلية وفي فني “التصاميم والغرافيك” من خلال الإبداع في نسج الزرابي والحنابل الزمورية والحياكات التقليدية القديمة المزركشة بالعقيق ذات أشكال وألوان متنوعة ونادرة الوجود في العصر الراهن.
كانت رقية انقايري مقاومة قبل أن تكون فنانة، فقد انضمت إلى جيش التحرير مقاومة بشجاعة الاستعمار الفرنسي، ليتم تكريمها فيما بعد من قبل جلالة الملك محمد السادس نصره الله وأيده بوسام من درجة ضابط. ولكن حتى في أحلك الأوقات، لم تخبو نار الفن في قلبها، فقد وجدت في الفن ملاذا وطريقة للتعبير عن روحها الثائرة وحبها العميق للحياة.
شقت طريقها في عالم الفن بإصرار وعزيمة تنبع من روح لم تتعلم الاستسلام، بل تعلمت كيف تجمع بين الأصالة وروح العصر في كل لوحة تخلقها. قال في حقها الفنان والمؤلف والسينمائي مصطفى منير: “المرأة التي تخلق من لا شيء كل شيء، والتي لا تعرف المستحيل”.
فنانة محاربة ولدت من رحم المقاومة
لقد ساهمت فترة المقاومة وأعضاء جيش التحرير والممارسة والاحتكاك والتجارب التي راكمتها منذ حوالي 90 سنة في صقل وتطوير مهاراتها الفنية التي اختارتها خاصة في سن المراهقة، مقبلة على الريشة والألوان في مجال الإبداع في القماش باستعمال العقيق في أدوات السيراميك والفخارة وإنجاز لوحات مقتبسة من ألوان وأشكال الزربية الزمورية.
تقول رقية انقايري : “توجهت إلى الفن التشكيلي مند صغري من أجل إبراز مواهبي الدفينة وقدرتي الذاتية والإبداعية التي أشعر بها بداخلي ومما شجعني في ذلك هم أبنائي”. تم تزيد : ” في طفولتي كنت أنجز الحنابل والحياكة والطرز وأبدع لبناتي حياكات ملونة بالعقيق . وبقي ذلك في ذهني منذ الصغر لدرجة أنني كنت أنام في الليل وأنا أفكر بجدية في الأمر. وعندما أستيقظ في الصباح أقوم بإنجاز عمل ما. والحمد لله استطعت أن أنجز اليوم أعمالا فنية مهمة لها رمزية ودلالة تمزج بين الأصالة وروح العصر “. وأنا اليوم متشبثة دائما بالاجتهاد من أجل الظفر بقلوب الناس، منشغلة بذلك على مدار السنة، مواظبة على مراكمة المستجدات ومشاطرتها مع المجتمع، حاصلة على انتباه أفراده.
باستحضار ما مرت به، تشدد رقية على أن الإبداع الفني هو بمثابة امتحان عسير يقضيه الفنان خلال فترة إعداد اللوحة الفنية، بدءا في التفكير في موضوعها، ومرورا إلى إعداد القماش واختيار الألوان والأشكال، إلى أن تصبح قائمة الذات، لتتحول فيما بعد إلى رمزية لمن أخدها واعتنى بها. فالفنان كما يقال كسائر البشر هو إبن بيئته ويتأثر بالوسط الذي عاش فيه وكذا بمواضيع الأعمال الفنية التي قام بها طوال مشواره الفني.
بدأت رحلتها في عالم الفن منذ الصغر، حيث كانت تداعب الأقمشة والخيوط بأناملها الصغيرة، مبتكرة أعمالا يدوية معقدة كالتطريز ونسج الزربية الزمورية وزخرفة القفطان المغربي بالخرز والأحجار الكريمة، وكأنها تنتر جزءا من روحها في كل غرزة.
مع مرور الزمن، تحولت رقية إلى فنانة تجسد في أعمالها روح الابتكار والتجديد، مستخدمة الألوان والأشكال لتعبر عن مشاعرها وأفكارها بطريقة تتجاوز الكلمات. لوحاتها، المستوحاة من الأحجار الكريمة بألوانها الفاتنة وتأثيراتها البصرية الخلابة، تظهر عشقها للجمال وتطلعها الدائم نحو خلق فن يلامس القلوب ويثير العقول.
الآن وقد بلغت 90 سنة من عمرها، تقف رقية انقايري كشاهدة على الزمان، حاملة إرثا فنيا يعبر الأجيال. لا تزال تنظر إلى العالم بعيون ترى أبعد من الظاهر، مؤمنة بأن الفن لا يعرف حدودا للزمان أو المكان. وهي، بكل ما قدمته وما تزال تقدمه، تعلمنا أن العمر ليس سوى رقم. وأن الشغف والإبداع لا يعترفان بالتقادم، بل يتجددان مع كل لحظة تمر، مانحين الحياة ألوانها ومعانيها العميقة.
تركة للأجيال الصاعدة
في 90 من عمرها، ومع روح شابة لم تشهد تجاعيد الزمن…ولا لعنة الشيخوخة !!!…ولا لعنة الكآبة والجروح اليومية !!!…فهي دائما مرحبة بالإيجابيات والثقة بالنفس !!!…تعيش رقية انقايري في عالمها الخاص، حيث تتجاوز الروح أثقال السنين. ما الدرس المستفاد من حياة هذه الفنانة ؟. ال 90 عاما هي عزيمة لا تلين مقرونة بشغف فريد بالحياة. إنهما شعلتان تنيران المنعطف الذي شهدته بشجاعة وإرادة قويتين. فتبدأ مسارا جديدا، لتظهر أن التسعين هي مجرد محطة في الحياة، وأن تحقيق الأحلام والمشاريع مرتبط ارتباطا وثيقا بالقدرة الإبداعية والخيال الجريء مع جرعة كبيرة من الشجاعة. المضي قدما و/أو بدء مسيرة جديدة !!! …هناك حيث يفضل الكثيرون الراحة (…)، هذا يظهر بجلاء قدرة شخصيتها، وعشقها للحياة لإ تباث ذاتها. إنها محطة لامرأة مقاتلة مليئة بالطاقة والحيوية التي تزدهر وتتواصل ، والتي تخوض غمار المجهول بكل سهولة، تتحدى كل الحدود لاستكشاف آفاق جديدة. إنها محطة عندما تركت عائلتها لتبني بيتها الزوجي وهي يافعة في سن 17 من عمرها، وأنجبت بعدها ستة أطفال…إنها محطة عندما تم تكريمها بوسام ملكي سامي…إنها محطة عندما وقفت أمام الكاميرا تتحدث وتجيب بعفوية وتلقائية بطريقة واضحة وسلسة، دون أن تظهر عليها علامات التوتر أو القلق أو الارتباك…إنها محطة عندما تلقت ، بمناسبة اليوم العالمي للمرأة، شهادة تقدير واعتراف من المركز الثقافي الروسي بالرباط، بتاريخ 2024/03/07…إنها محطة كذلك عندما نظمت، بين 2024/20 و 2024/03/30، معرضا فنيا فرديا برواق “النادرة” بالرباط…ومحطة أخرى مهمة كذلك عندما خططت لتنظيم معارض فنية أخرى في السنوات القادمة…كل هذه الإنجازات والتكريمات تظهر جليا أنه لا توجد حدود عمرية لإنجاز مهمات معينة. يستطيع الإنسان إنجاز أي مهمة بغض النظر عن عمره. إصرار هذه الفنانة، دليل قاطع وملموس على قوتها في مواجهة التحديات، ودرس وعبرة للأجيال الصاعدة.
تعليقات الزوار ( 0 )